أنا رجل في الثانية والأربعين من عمري حاصل على مؤهل عال تزوجت منذ عشر سنوات من فتاة من أسرة طيبة.. وكنت حينذاك اعمل محاسبا بمستوصف خاص بإحدى دول الخليج, وارتبطت بهذه الفتاة وعقدت قراني عليها في مدينتي الصغيرة بالوجه البحري, وسافرت هي إلي حيث أقيم لإتمام الزفاف توفيرا للنفقات. وبعد خمسة شهور من زواجنا من الله سبحانه وتعالي علينا بحمل زوجتي في توءم, ومضت شهور الحمل الأولي عادية إلي جاء الشهر السادس, وتطورت الظروف واحتاجت زوجتي فجأة إلي إجراء جراحة كبري لها.. وكان مطلوبا أن يتوافر عدد كبير من المتبرعين لها بالدم لإنقاذ حياتها خلال الجراحة, والحمد لله فلقد تجمعنا أنا وعدد كبير من زملائي بالعمل في المستشفي وتقدمنا جميعا للتبرع بالدم المطلوب, وأبلغني الأطباء أنهم يسعون إنقاذ حياة الزوجة علي حساب حياة التوءم وكان قراري وبإجماع زملائي كلهم هو أن إنقاذ حياة الزوجة هو الأهم.. أما التوءم فهما في ذمة الخالق العظيم وهو الذي خلقهما بقدرته العليا.. وهو الذي يستطيع أن يعوضنا عنهما بإرادته حين يشاء واستراح ضميري وضمير زملائي جميعا لهذا القرار, واستغرقت العملية الجراحية عشر ساعات, كنت خلالها عاكفا في مسجد المستوصف أسجد لله خوفا وأملا أتضرع إليه أتلو آيات الذكر الحكيم, وخاصة سورة ياسين, إلي أن خرج الأطباء وقالوا لنا أنهم قد فعلوا كل ما يستطيعون.. ولم يبق إلا الأمل في رحمة الله. فنقلت زوجتي من غرفة الجراحة إلي العناية المركزة, وأخذنا التوءم اللذين لم يكتب لهما أن يريا الحياة واستودعناهما عند من لا تضيع عنده الودائع سبحانه. وظلت زوجتي في العناية المركزة شهرا كاملا.. وكانت قد سألتني عن توءمها حين أفاقت ولم أجد ما يدعو إلي إخفاء الحقيقة أو التهرب منها فصارحتها بأنهما أمانة عند الخالق العظيم وسيكونان شفيعين لها بإذن الله يوم القيامة, فتجلدت زوجتي واسترجعت.. وقالت هو من أعطي وهو من أخذ فاللهم آجرني واجر زوجي عنهما يوم الحساب. وخرجت زوجتي من المستشفي وسط دهشة كثيرين لم يصدقوا احتمال شفائها أو نجاتها من الموت بعد أن أكد الأطباء من قبل أن نسبة نجاح تلك الجراحة الكبرى ضئيلة للغاية. وعدنا لحياتنا الطبيعية وبعد فترة ليست طويلة, بدأت زوجتي تشعر ببعض الألم والمغص في البطن.. وبدأنا نتردد علي المستشفي فيعطيها الأطباء بعض المسكنات ويذهب الألم.. ثم لا يلبث أن يعود من جديد.. إلي أن قرروا إجراء جراحة استكشاف للبطن للكشف عن أسباب هذا الألم, وامتثلنا لقرار الأطباء وأجريت الجراحة ووجدوا أن الأمعاء بها التهاب لا يحدث إلا بنسبة الواحد في المليون في مثل هذه الظروف, واتخذ الأطباء قرارهم بإجراء جراحة ثالثة لها لفصل الأمعاء إلي جزأين. وبعد الجراحة توجهنا لأداء العمرة.. والابتهال إلي الله أن ينعم عليها بنعمة الشفاء, ورجعنا إلي مصر لقضاء فترة الإجازة السنوية فرجعت نفس الآلام والمشاكل مرة أخري.. واحتاجت زوجتي إلي إجراء جراحة رابعة كبري في أحد المعاهد المتخصصة في مصر.. وتقبلنا أنا وزوجتي كل ذلك بصبر وامتثال وبحمد الله علي نعمه والثناء عليه. ثم عدنا إلي مقر عملي بالبلد الخليجي, واستقرت الحالة الصحية لزوجتي وانتهت الآلام إلي غير رجعة والحمد لله.. ومارسنا حياتنا الطبيعية إلي أن انتهت فترة عملي بالغربة, ورجعنا للاستقرار في بلدنا, وكنت خلال ذلك قد استخدمت كل أو معظم مدخراتي في الغربة في بناء شقة بمنزل أبى وتجهيزها ورجعت إلي عملي كموظف بالحكومة.. وبعد عودتنا بفترة بدأت المشاكل من جانب آخر هو جانب والدتي يرحمها الله واخوتي, وكان مثار كل تلك المشاكل هو الحديث عن الجراحات الأربع التي تعرضت لها زوجتي ومدي تأثيرها علي فرصتها في الإنجاب, ورغبة أبي وأمي في أن يريا لهما حفيدا مني, وكنت في كل تلك المشاكل أقول دائما لأبي وأمي واخوتي أن الإنجاب كالرزق والعمر وعلم الساعة كلها من أمر ربي وحده, ولكن دون جدوى فلا يمر يوم دون أن أرجع من عملي وأجد زوجتي تبكي بكاء مريرا بسبب كلمة أو إشارة وجهت إليها في هذا الشأن, أو خبر نما إليها عن ضغط أهلي علي لكي أطلقها لأتزوج من أجل الإنجاب. وتحت ضغط هذه الظروف كلها اضطررت لمصارحة أبى وامي بالسر الذي كنت اكتمه عنهما وهو انني انا أيضا اعاني من سبب عضوي يضعف من فرصتي في الانجاب.. وان حمل زوجتي الأول قد تم خلال فترة كنت اتلقي فيها علاجا مكثفا لحالتي, اما الآن فانني احتاج إلي عملية زرع انسجة, وهي مكلفة جدا ولا طاقة لي بها, وبالتالي فإن ظروفي وظروف زوجتي متشابهة وهذه هي حياتنا ونحن راضيان بها, لكن ابي وامي لم يقتنعا بذلك وفسراه علي طريقتهما, بإنني انسب إلي نفسي العجز عن الانجاب لكي يتوقفا عن الضغط علي للزواج مرة أخري, واستمرت الضغوط القاسية بلا هوادة.. وبعد فترة فوجئت بابي وأمي يضعانني امام خيار صعب هو إما أن اطلق زوجتي هذه واتزوج من أخري علي أمل الانجاب منها.. وأما أن اغادر الشقة التي بنيتها بشقاء العمر في الغربة, وابحث لنفسي عن مسكن مستقل خارج نطاق الأسرة. وبالرغم من قسوة الاختيار فإني لم اتردد لحظة في اتخاذ قراري وهو التمسك بزوجتي والبحث لنفسي عن سكن آخر, بعد أن أعيتني كل الحيل مع أهلي, وبعد أن استشرت أهل الذكر ورجال الدين فاجمعوا كلهم علي ان ما يطلبه مني ابي وامي هو تدخل في أمور خاصة بقدرة الله وحده, وليس لي ولا لزوجتي يد فيها. وقبلت بالقرار الصعب وغادرت شقتي في منزل الأسرة, لكيلا اغضب أبوي وأهلي واقترضت من البنك علي مرتبي لكي ادفع مقدم ايجار لشقة صغيرة استأجرتها بمائة وخمسين جنيها كل شهر.. وكل مرتبي لا يزيد علي مائتين وسبعين جنيها, وزوجتي وهي حاصلة علي بكالريوس التجارة لا تعمل. وانتقلنا للشقة الجديدة.. ووجدتني ادفع اكثر من نصف مرتبي كل شهر كايجار لها ولي في نفس الوقت شقة خالية بنيتها بعرقي وكفاحي في منزل الأسرة, ثم رحلت أمي عن الحياة فجأة يرحمها الله.. وبعد فترة الحداد حاولت مع أبي جاهدا أن أعود إلي مسكني.. وتدخل بعض الصالحين بيني وبينه في ذلك, فإذا به يتمسك بالرفض النهائي ومازال علي موقفه هذا إلي الآن. وبالرغم مما نعانيه من ضيق العيش وجفاف الحياة ونفقات الأطباء المختصين بأمر الانجاب بالنسبة لزوجتي ولي, فلقد أزداد تمسك كل منا بالآخر واقتناعه به وحاجته إليه.. واستشعاره الراحة والسعادة بين يديه.. وفي نهاية كل يوم يجد كل منا قلبا مفتوحا للآخر يقدم له العطاء والتضحيات ويتحمل العناء من أجله والحمد لله علي ذلك حمدا كثيرا, وأنني أكتب لك هذه الرسالة لكي أعلق بها علي رسالة الأرض الخصيبة للزوج الشاب الذي يئس من عدم إنجاب زوجته حتى زهدها, وأقول له إنه علي قدر صبر الإنسان تكون جوائز السماء التي يبشر بها صاحب ««بريد الجمعة»» الصابرين والمبتلين, ولأرجوه أن يصبر وألا ييأس من روح الله, كما أفعل أنا مع تمنياتي للجميع بالسعادة وتحقيق الأمنيات إن شاء الله.
ولكاتب هذه الرسالة أقول
ظننت في البداية أنك قد كتبت رسالتك هذه لكي تطلب مني في ختامها أن أناشد أباك أن يخفف من غلوائه ويسمح لك بالعودة إلي مسكنك الذي بنيته بشقاء الغربة بدلا من معاناتك لشظف العيش في شقة مستأجرة لا يسمح لك دخلك بتحمل عبء إيجارها, فإذا بكبرياء الحب الذي جمع بينك وبين زوجتك وصمد لكل الأحوال والتحديات, يحول بينك وبين ذلك, وإذا بك تختتم رسالتك بأنشودة بليغة وقليلة الكلمات عن السعادة وسكون القلب إلي جوار من يحب والرضا بكل ما تحمله له أعاصير الحياة والصبر عليها والاستعانة بالحب الصادق والعطاء المتبادل والتضحيات المشتركة علي اجتياز العقبات واحتمال جفاف الحياة.. وإذا بك تهدي تجربتك في الصبر علي ما جرت به المقادير والتطلع الدائم إلي الأمل في رحمة الله, إلي كاتب رسالة الأرض الخصيبة راجيا له جوائز السماء للصابرين والمحتسبين, وطالبا منه الا ييأس أبدا من روح الله وأن يصبر علي ظروفه كما تفعل أنت! يا إلهي.. لقد القيت علينا درسا جديدا في معني السعا دة