الجمعة، مايو 22

الدور العلوي

أنا سيدة في الثلاثينيات من العمر‏,‏ جامعية ومثقفة إلي حد ما‏,‏ أحب القراءة والكتابة‏..‏ وتصورت في فترة من الفترات أنني سوف أصبح كاتبة‏,‏ لكن الحياة غيرت اتجاهي بعد أن تزوجت وانشغلت بحياتي العائلية‏.‏ولقد قرأت الرسالة التي نشرت في هذا الباب منذ بضعه أسابيع بعنوان الأب الرسمي للفتاة التي ضمها جدها وجدتها إليهما منذ طفولتها فنشأت مرتبطة بهما وبعيدة عن أبيها وأمها‏,‏ ورفضت العودة للحياة بينهما وشجعها الجدان علي ذلك‏,‏ إلي أن بلغت سن الزواج وتوقعت من أبيها الرسمي أن يسهم في نفقات زواجها بقدر معقول‏,‏ فإذا بالأب يرفض المساهمة في ذلك نهائيا لأنها ابتعدت عن أبويها وكان منطقه في ذلك أنه مادام جداها قد شجعاها علي عدم العودة إليهما فليتكفلا دونه بنفقات زواجها ولقد أثارت هذه الرسالة أشجاني وأريد أن أروي لها قصتي لعلها تجد فيها بعض ما يرشدها إلي سواء السبيل‏..‏ فلقد جئت إلي الحياة لأبوين رزقا قبلي بأربع فتيات‏,‏ وتركزت كل آمالهما في أن يجيء المولود الخامس ولدا‏,‏ فاذا بي أولد بنتا فاستقبلاني بالحزن والاكتئاب‏..‏ ولأننا كنا في ذلك الوقت نعيش في بيت من دورين باحدي مدن القناة‏,‏ ويقيم في الدور العلوي من البيت عمي وخالتي وهما زوجان رزقا ببنت غير مكتملة النمو العقلي‏,‏ فلقد عرضا علي أبي وأمي أن يضماني إليهما وأنا طفلة وليدة ويتكفلا بتربيتي وتنشئتي دونهما‏,‏ لكي يحلا لأبي وأمي مشكلة طفلتهما الخامسة من ناحية‏,‏ ولأنهما‏,‏ كما أدركت فيما بعد ـ أرادا أن يربياني ويتكفلا بي فأصبح أختا لابنتهما المسكينة وأرعاها حين أكبر وأتحمل مسئوليتها من بعدهما‏.‏وهكذا وجدت نفسي بين أب وأم وأخت مسكينة ينمو جسمها ولا ينمو معه عقلها‏..‏ ويقيم تحتنا عمي وخالتي وبنات عمي وخالتي الأربع‏,‏ ومازلت أذكر من ذكريات طفولتي حين كانت تسألني بعض السيدات اللاتي يزرن الأسرة بالطابق العلوي‏..‏ كيف حال ماما؟‏..‏ فأتعجب لماذا تسألني عن أمي وهي تجلس إلي جوارها‏!‏ وبالرغم من ذلك فلقد كان هناك شيء غامض لا أدري كنهه يجذبني إلي الطابق الأرضي الذي يقيم به عمي وخالتي وبناتهما وأشعر بحنين عجيب إليهم جميعا‏,‏ ومضت بي الأعوام والتحقت بالمدرسة ولم ألتفت كثيرا لاختلاف اسم الأب في أوراقي الرسمية عن اسمه في الحياة‏,‏ فلقد قيل لي ان اسمه في الورق هو الاسم الرسمي‏,‏ وان اسمه في الحياة هو اسم الشهرة‏,‏ فأحببت اسم الشهرة أكثر مما أحببت الاسم الرسمي‏,‏ إلي أن بلغت سن الصبا وبدأت أشعر بتغير غير مفهوم في معاملة أمي لي‏..‏ وتفاقم هذا التغير حتي بدأت أشعر بعدم حبها لي‏,‏ ولأنني لم أكن أدرك دوافع هذا التغير من جانبها تجاهي فلقد كرهتها لمعاملتها السيئة لي‏,‏ وأحببت أبي كل الحب الذي يمكن أن يتسع له قلب فتاة مثلي‏,‏ لأنه لم يتغير تجاهي بعد أن كبرت وظل يغمرني بحبه وعطفه إلي النهاية‏,‏ وخلال ذلك كانت الدنيا قد فرقت بيننا وبين أسرة عمي وخالتي وبناتهما الأربع وانتقلنا نحن للاقامة في القاهرة‏,‏ وتخرجت في كليتي وارتبطت بمن زختارني واختارته‏,‏ وبدأنا الاستعداد للزواج فإذا بأبي يصر علي أن يستأذن عمي وخالتي في زواجي وأن يحصل أولا علي موافقتهما قبل أن يعلن قبوله‏,‏ وتساءلت عن ضرورة ذلك‏,‏ فعرفت الحقيقة التي خفيت عني كل هذه السنين وهي أن هذا العم وهذه الخالة هما أبواي الحقيقيان‏,‏ وان هؤلاء الفتيات الأربع هن أخواتي‏,‏ أما هذه الفتاة المسكينة التي أعيش معها فهي ابنة عمي وابنة خالتي‏,‏ وأدركت في هذه اللحظة فقط سر تغير مشاعر من كنت أظنها أمي تجاهي بعد أن كبرت وصرت فتاة في بداية سن الشباب‏..‏ فلقد كانت الحسرة تنهش قلبها الحزين وهي تري ابنتها الحقيقية تنمو جسما وعقلها لايتجاوز عقل طفلة عمرها خمس سنوات‏,‏ في حين استوت الفتاة الأخري التي تكفلت بها شابة تجذب الأبصار‏,‏ ويشيد بها الجيران‏,‏ وانفجر بركان الغضب في قلبي تجاه أبي وأمي الحقيقيين‏..‏ كيف تخليا عني وتركاني لغيرهما حتي ولو كان هذا الغير هما عمي وخالتي؟‏,‏ ولماذا كرهاني وأنا طفلة وليدة ولا ذنب لي في مجيئي للحياة بعد أربع فتيات؟‏..‏ وراح أبي وأمي الحقيقيان يحاولان بكل جهدهما أن يبررا لي ماحدث ويؤكدان لي أنهما مظلومان مع عمي وخالتي لأنهما كانا في حاجة لابنة طبيعية بعد أن رزئا بابنتهما المسكينة‏,‏ وانهما اغتصباني منهما بالالحاح وبالاحراج والضغط النفسي عليهما‏,‏ ولم أصدق هذا التبرير ولم أقتنع به واستمر الشرخ في داخلي لفترة طويلة حتي كرهت نفسي‏,‏ وظل هذا الشرخ يفسد علي حياتي لفترة طويلة إلي أن تزوجت وتكفل بنفقات زواجي بل وبشقتي كذلك من تكفل من قبل بتربيتي وتنشئتي وهو أبي بالتربية وعمي بالصلة الرسمية‏,‏ وانشغلت بحياتي العائلية وأسرتي الجديدة عن ذكريات الماضي وأحزانه‏..‏ ولهذا فإني أقول لهذه الفتاة التي ابتعدت عن أبويها ورفضت العودة إليهما وفضلت الحياة بين جديها علي الحياة في بيت أبيها وتلوم أباها لرفضه القيام بأي دور في زواجها‏..‏ أقول لها لماذا لم تبحثي عن هذا الدور قبل الآن‏..‏ ولماذا لم تقدر احتياج أبويها إليها كما تقدر الآن احتياجها إلي أن يقوم والدها بأي دور في زواجها؟‏..‏ انك أيتها الفتاة لن تدركي عمق حزنهما لموقفك منهما إلاحين تصبحين أما وتعرفين معني الأمومة‏..‏ ولقد كان الأفضل لجديك مهما يكن حبهما لك ألايجعلا انتماءك الأول إليهما وليس لأبويك‏,‏ أما مسألة زواجك فإن من واجب جدك أن يتكفل به دون أن يزعج الأب الرسمي بذلك مادام قد شجعك من البداية علي مفارقته والبعد عنه‏,‏ ولكي يكمل المشوار الذي بدأه معك وهو القادر علي ذلك‏,‏ أم تراه يريد أن يجني العسل بغير أن يدفع الثمن؟‏..‏ لقد استأثر بك علي غير رغبة أبويك حتي ولو كانا قد رضيا في البداية بحضانته لك لانشغالهما في العمل‏,‏ لأنه حين سمحت لهما الظروف باستردادك شجعك علي عدم العودة إليهما‏..‏ ولم يقدر احتياجهما إليك‏.‏وفي النهاية فاني أناشد كل الآباء وكل الأمهات ألايتخلوا عن أبنائهم لغيرهم مهما تكن أسبابهم لذلك‏,‏ ومهما يكن هؤلاء الغير منهم‏,‏ لأنه لاشيء يعوض الأبناء عن صحبة الأبوين ورعايتهما وحبهما لأبنائهما والسلام‏.
‏‏««‏ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏»»
‏مهما تكن دوافع الأبوين للتخلي عن أحد أطفالهما للغير حتي ولو كان أقرب الناس إليهما‏,‏ ومهما تكن ظروف الحياة المادية الأفضل التي يقدمها هؤلاء الغير للطفل‏,‏ فإنه لايغفر لأبويه أبدا حين يدرك حقائق الحياة تخليهما عنه لغيرهما‏,‏ ولا يخفف شيء مادي قدمته له حياته الجديدة من مرارة احساسه بالنبذ العاطفي من جانب أبويه‏,‏ وبأنه لم يكن مرغوبا فيه لديهما‏.‏لهذا لم أعجب ياسيدتي حين انفجر بركان الغضب الكامن في أعماقك علي أبويك حين اكتشفت الحقيقة التي خفيت عنك سنين طوالا‏,‏ كما لم أعجب كذلك لعدم اقتناعك بدفاعهما المتهافت عن نفسيهما ومحاولتهما لإيهامك بأنهما كانا مغلوبين علي أمرهما مع عمك وخالتك اللذين اغتصباك منهما بالاكراه المعنوي‏.‏فلا شيء حقا يمكن أن يقنع عقل الابنة أو الابن بأنه شيء يمكن التنازل عنه للغير بمثل هذه المبررات الواهية‏,‏ ولا شيء كذلك في الحياة كلها يمكن أن يعوضه عن احساسه الثمين بأنه ثمرة القلب بالنسبة لأبيه وأمه وانهما علي استعداد للتفكير مجرد التفكير في نبذه أو التخلي عنه‏,‏ ولعلي لهذا السبب قد أدركت حين قرأت رسالة الأب الرسمي أن بعض أسباب رفض كاتبتها للعودة إلي أحضان أبويها حين سمحت لهما ظروفهما باستردادها من جديها‏,‏ لايرجع فقط إلي اعتيادها الحياة بين جديها منذ نعومة أظافرها‏..‏ ولا فقط إلي استنامتها إلي تدليلهما لها وحنانهما عليها مما قد لايتوافر لها بنفس القدر الزائد في بيت أبويها ووسط اخوتها الآخرين‏,‏ وانما يرجع أيضا إلي رغبة عقلها الباطن في معاقبة أبويها علي تخليهما عنها في طفولتها المبكرة لجديها‏,‏ وهي رغبة قد لاتدركها هي نفسها‏,‏ لكن ذلك لاينفي وجودها ولا تأثيرها الغامض علي موقفها من أبويها بعد أن شبت عن الطوق‏,‏ فنحن نعرف أن العقل الباطن تترسب فيه الخبرات المؤلمة التي يؤلمنا تذكرها‏,‏ ونرغب في نسيانها والتخلص منها‏,‏ وهذه الخبرات قد يخيل إلينا بالفعل أننا قد نسيناها إلي أن نفاجأ بها تطل علينا بأعناقها من جديد وتدفعنا في بعض الأحيان إلي مواقف وسلوكيات لاتتضح لنا نحن أنفسنا دوافعها ومبرراتها المنطقية‏,‏ فإذا استرجعنا بعض ذكرياتها البعيدة وحاولنا الربط بين أجزائها المتناثرة وتحليلها تحليلا منطقيا‏,‏ قد تتكشف لنا بعض الدوافع التي مالت بنا لاتخاذ هذه المواقف غير المبررة لنا أو للآخرين في حينها‏.‏ وفي هذا النطاق قد اعتبر كذلك نفور هذه الفتاة من الاقامة بين أبويها واحساسها بالغربة النفسية بينها وبين اخوتها كما ذكرت في رسالتها نوعا من رد الفعل اللا ارادي لنبذهما المبكر لها في الطفولة بنبذ عاطفي مماثل لهما وهي في سن الشباب‏,‏ وكل ذلك من تداعيات هذه الرغبة الكامنة في عقلها الباطن لمعاقبتهما معنويا علي تلك الجريمة التي لايغتفرها كما قلت طفل لأبويه‏.‏علي أي حال ياسيدتي فإن الإنسان حين يروي قصة حياته للآخرين كما فعلت في رسالتك هذه فلابد له أن يجد فيها مايسعده أن يتذكره وما يؤلمه أيضا أن يتذكره‏,‏ وأسعد الناس هم من حظوا في حياتهم بطفولة سعيدة هيأتهم للتفاعل مع الحياة علي نحو سليم‏..‏ وأسعد الناس كذلك من يستطيعون أن يقولوا ماقالته الروائية الانجليزية الشهيرة أجاثا كريستي في مقدمة مذكراتها‏:‏ لقد تذكرت ما أردت أن أتذكره وغمست قلمي في مغطس سعيد ليخرج منه بحفنة من الذكريات المحلاة بطعم السكر‏!..‏ بمعني أنها قد تذكرت مايسعدها تذكره ونسيت كل مايؤلمها أن تسترجعه فعسي أن تجعلي من حياة أطفالك كلها ترنيمة جميلة لبهجة الحياة يسعدهم حين يسترجعون ملامحها وهم كبار أن يتذكروا كل تفاصيلها الجميلة فلا يجدون فيها إلاكل مايزيدهم رضا عن أبويهم وحياتهم بين أحضانهما حتي خرجوا إلي الحياة أشخاصا أسوياء فهذا هو أفضل مايقدمه أبوان لأطفالهما‏..‏ وهذا هو أفضل مايقدمه كل أبوين للحياة بوجه عام‏..‏

رحلة النجاح